كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر- ولكن على نطاق أوسع- بعدما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى، المستمرة التأثير، في خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى! ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة، والأساس الركين لهذا المجتمع؛ لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة.. ولكن الله الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر! كما أنه- سبحانه- كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة.. والله أعلم حيث يجعل رسالته..
وأول ما ظهر من ذلك كان يوم حنين الذي جاء عنه في هذه السورة: التوبة: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين}
وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من الطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة. فكان وجود هذين الألفين- مع عشرة الآلاف- سبباً في اختلال التوازن في الصف- بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن- ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح.
كذلك كان ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع؛ ودخول تلك الأفواج الجديدة، بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة.. هذه الظواهر والأعراض التي تحدثت عنها سورة التوبة، والتي اقتضت تلك الحملات الطويلة المفصلة المنوعة الأساليب، التي أشرنا إليها في المقتطفات الممثلة لكل مقاطع السورة.
وفي ضوء هذا البيان المجمل نملك المضي مع نصوص هذا الدرس تفصيلاً:
{الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم}..
بدأ بتصنيف الأعراب- وهم البدو- وقد كانت قبائل منهم حول المدينة، وكانت لهم أدوار في الهجوم على دار الإسلام في المدينة- قبل إسلامهم- فلما أسلموا كانوا بوجه عام داخلين في الفئتين اللتين ورد وصفهما في هذه الآيات.
وقد بدأ الحديث عنهما بتقرير قاعدة كلية عن طبيعة الأعراب:
{الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم}..
والتعبير بهذا العموم يعطي وصفاً ثابتاً متعلقاً بالبدو وبالبداوة. فالشأن في البدو أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.
والجدارة بعدم العلم بما أنزل الله على رسوله ناشئة من ظروف حياتهم، وما تنشئه في طباعهم من جفوة، ومن بعد عن المعرفة وعن الوقوف عند الحدود، ومن مادية حسية تجعل القيم المادية هي السائدة. وإن كان الإيمان يعدل من هذه الطباع، ويرفع من تلك القيم، ويصلهم بالأفق الوضيء المرتفع على الحسية.
وقد وردت روايات كثيرة عن جفوة الأعراب.. ومما أورده ابن كثير في التفسير..
قال الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان، وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني! فقال زيد: وما يربيك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال! فقال زيد ابن صوحان: صدق الله ورسوله: {الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن».
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولاً، وإنما كانت البعثة من أهل القرى كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه أضعافها حتى رضي، قال: «لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي» لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن: مكة والطائف والمدينة واليمن، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء.
قال حديث مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو أسامة وابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم! قالوا: لكنا والله ما نقبل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة؟».
وكثير من الروايات يكشف عن طابع الجفوة والفظاظة في نفوس الأعراب. حتى بعد الإسلام. فلا جرم يكون الشأن فيهم أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، لطول ما طبعتهم البداوة بالجفوة والغلظة عندما يقهرون غيرهم؛ أو بالنفاق والالتواء عندما يقهرهم غيرهم؛ وبالاعتداء وعدم الوقوف عند الحدود بسبب مقتضيات حياتهم في البادية.
{والله عليم حكيم}..
عليم بأحوال عباده وصفاته وطباعهم. حكيم في توزيع المواهب والخصائص والاستعدادات، وتنويع الأجناس والشعوب والبيئات.
وبعد الوصف الرئيسي العام للأعراب يجيئ التصنيف حسبما أحدث الإيمان في النفوس من تعديلات؛ وما أنشأه كذلك من فروق بين القلوب التي خالطتها بشاشته والقلوب التي بقيت على ما فيها من كفر ونفاق؛ مما يمثل الواقع في المجتمع المسلم حينئذاك:
{ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم}..
وربما عجل بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم، إلحاقاً لهم بمنافقي المدينة الذين كان يتحدث عنهم في المقطع السالف كله؛ وليتصل جو الحديث عن المنافقين من هؤلاء ومن هؤلاء.
{ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً}..
فهو مضطر لأن ينفق من ماله في الزكاة، وفي غزوات المسلمين؛ تظاهراً بالإسلام، ليستمتع بمزايا الحياة في المجتمع المسلم؛ ومداراة للمسلمين وهم أصحاب السلطان اليوم في الجزيرة! وهو يعد ما ينفقه غرامة وخسارة يؤديها كارهاً، لا مساعدة للغزاة المجاهدين، ولا حباً في انتصار الإسلام والمسلمين.
{ويتربص بكم الدوائر}..
وينتظر متى تدور الدائرة على المسلمين، ويتمنى ألا يعودوا من غزاة سالمين!
وهنا يعاجلهم السياق بدعاء من الله- سبحانه- عليهم؛ ودعاء الله معناه وقوع مدلول الدعاء عليهم:
{عليهم دائرة السوء}..
كأن للسوء دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم؛ وتدور عليهم فلا تدعهم. وذلك من باب تجسيم المعنوي وتخييله، الذي يعمق وقع المعنى ويحييه.
{والله سميع عليم}.
والسمع والعلم يتناسبان هنا مع جو التربص بالسوء من أعداء الجماعة المسلمة، والنفاق الذي تحتويه جوانحهم، وتخفيه ظواهرهم.. والله سميع لما يقولون عليم بما يظهرون وما يكتمون.
وهناك الفريق الآخر ممن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان:
{ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم}..
فهو الإيمان بالله واليوم الآخر باعث الإنفاق عند هذا الفريق، لا الخوف من الناس، ولا الملق للغالبين، ولا حساب الربح والخسارة في دنيا الناس!
وهذا الفريق المؤمن بالله واليوم الآخر يبتغي بما ينفق أن يكون قربى من الله؛ ويتطلب صلوات الرسول.. أي دعواته.. الدالة على رضاه صلى الله عليه وسلم، المقبولة عند الله، وهو يدعو بها للمؤمنين بالله واليوم الآخر، المنفقين ابتغاء القربى من الله ورضاه.
لذلك يبادر السياق فيقرر لهم أنها قربى مقبولة عند الله:
{ألا إنها قربة لهم}..
ويبشرهم بحسن العاقبة وعداً من الله حقاً:
{سيدخلهم الله في رحمته}..
ويجسم الرحمة كأنها دار يدخلونها فتحتويهم؛ وذلك في مقابل تجسيم {دائرة السوء} على الفريق الآخر، الذي يتخذ ما ينفق مغرماً، ويتربص بالمؤمنين الدوائر.
{إن الله غفور رحيم}..
يقبل التوبة، ويتقبل النفقة، ويغفر ما كان من ذنب، ويرحم من يبتغون الرحمة..
وبعد تصنيف الأعراب على وجه الإجمال يستطرد السياق في تصنيف المجتمع كله.. حاضره وباديه.. إلى أربع طبقات إيمانية.. السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. والمنافقين الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة ومن الأعراب. والذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. والذين أرجئ الحكم في أمرهم حتى يقضي الله فيهم بقضائه:
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}..
{وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم}.
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}.
{وآخرون مُرجوْن لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم}..
والظاهر أن هذا التصنيف قد نزلت به هذه الآيات بعد العودة من تبوك؛ وبعد اعتذار من اعتذر من المنافقين المتخلفين؛ ومن المؤمنين المتخلفين كذلك. سواء منهم من اعتذر صادقاً ومن ربط نفسه بسارية المسجد حتى يحله رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لم يعتذر بشيء راجياً أن يقبل الله توبته بصدقه، وهم الثلاثة الذين خلفوا فلم يحكم في شأنهم بشيء حتى تاب الله عليهم وقبل توبتهم- كما سيجيء- وكان مجموع هؤلاء مثل صنوف الناس من حول الدعوة في الجزيرة بعد غزوة تبوك. كان الله- سبحانه- يكشف أرض الحركة كلها وما عليها ومن عليها لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين الخلص، هذا الكشف النهائي الكامل قرب نهاية المطاف في الجولة الأولى لهذا الدين، في موطنه الأول، قبل أن ينطلق إلى الأرض كلها بإعلانه العام بالعبودية لله وحده والدينونة له وحده، وتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد في شتى الصور والأشكال.
ولا بد للحركة الإسلامية حين تنطلق أن تتكشف لها أرض المعركة، وما عليها ومن عليها، فهذا التكشف ضروري لكل خطوة؛ حتى يعرف أصحاب الحركة مواضع أقدامهم في كل خطوة في الطريق.
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}..
وهذه الطبقة من المسلمين- بمجموعاتها الثلاث: {السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان}- كانت تؤلف القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم في الجزيرة بعد الفتح- كما أسلفنا في الجزء العاشر في تقديم السورة. وكانت هي التي تمسك هذا المجتمع كله في كل شدة، وفي كل رخاء كذلك: فابتلاء الرخاء كثيراً ما يكون أصعب وأخطر من ابتلاء الشدة!
والسابقون من المهاجرين نميل نحن إلى اعتبار أنهم هم الذين هاجروا قبل بدر، وكذلك السابقون من الأنصار. أما الذين اتبعوهم بإحسان- الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعاً إبان غزوة تبوك- فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك، وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني- وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر، وهي أشد الفترات طبعاً.
وقد وردت أقوال متعددة في اعتبار من هم السابقون من المهاجرين والأنصار. فقيل: هم الذين هاجروا ونصروا قبل بدر وقيل: هم الذين صلوا للقبلتين. وقيل: هم أهل بدر. وقيل: هم الذين هاجروا ونصروا قبل الحديبية. وقيل: هم أهل بيعة الرضوان... ونحن نرى من تتبعنا لمراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية، أن الاعتبار الذي اعتبرناه أرجح.. والله أعلم..
ولعله يحسن أن نعيد هنا فقرات مما سبق أن فصلناه في الجزء العاشر عن مراحل بناء المجتمع المسلم وتكوُّن طبقاته الإيمانية، يكون حاضراً بين يدي قارئ هذا الجزء، خيراً من إحالته إلى الجزء السابق؛ لتكون هذه الحقيقة قريبة منه يتتبع على ضوئها ذلك التصنيف النهائي للمجتمع في الآيات التي نواجهها هنا: لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة، فلم تكد الجاهلية- ممثلة في قريش- تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان الله؛ ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى الله. ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة لله ولرسول الله؛ ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية.
لم تكد الجاهلية- ممثلة في قريش أول الأمر- تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة.. وعلى التجمع الجديد، وعلى القيادة الجديدة؛ وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة.. لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية الله للعالمين، في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد؛ وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد، يتبع في تحركة قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض.. وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان.. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والدينونة لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه لله؛ وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب، والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان.